رغم تجربتها القصيرة فإن منظمة «نيلي» شكلت أساساً للعمل الاستخباراتي الصهيوني، خصوصاً أنها لعبت دوراً كبيراً في انتصار الإنجليز على الأتراك واحتلالهم فلسطين، ومن ثم صدور وعد بلفور الذي مهد لقيام دولة إسرائيل.. فما قصة هذه المنظمة؟
خلال الحرب العالمية الأولى عرض الصهاينة خدماتهم في التجسس لحساب القوات البريطانية وراء الجبهة الفلسطينية، وأشهر شبكة عملت هناك هي التي نظمها آرون آرونسون المعروفة بـ«نيلي».
وتذكر الدكتورة خيرية قاسمية في كتابها «النشاط الصهيوني في الشرق العربي وصداه 1908-1918»، أن آرونسون يهودي من مستعمرة «زخرون يعقوب» ومن أصل روماني وخبير زراعي له تجربة طويلة في سوريا تبلغ 25 سنة، وعمل أبحاثاً زراعية مهمة، وتولى إدارة مركز التجارب الزراعية في منطقة «عتليت» قرب مستوطنة «زخرون يعقوب»، وهو مشروع أمريكي يهودي أُنشئ في الفترة السابقة على الحرب.
وأثناء الحرب كان آرونسون مسؤولاً عن استلام وتوزيع المعونات التي تأتي من أمريكا، ثم أصبح من المقربين إلى جمال باشا حاكم سوريا وبلاد الشام نظراً لاهتمام الأخير بالمشاريع الزراعية، وفي ما بعد جعلته السلطات التركية مسئولاً عن حملة لمكافحة الجراد سنة 1915، فأعطته وضعاً رسمياً وحرية تنقل في كل أجزاء المنطقة بما فيها المناطق المحظورة على المدنيين.
وبسبب هذا النفوذ في مركز التجارب الزراعية، حصل آرون آرونسون وأخوه الكسي على إذن من السلطات للتنقل في أماكن كثيرة، بحجة توزيع المعونة، ووصل حتى القاعدة الجنوبية في منطقة بئر السبع التي كانت مُعدة لعمليات التقدم نحو السويس.
وخلال غزو الجراد أرسل آرون أخاه في حملة تفتيشية للتحري عن نتائج حملة الجراد في سوريا، وبجواز رسمي بوصفه مفتش مكافحة الجراد تمكن من السفر في جميع أنحاء البلاد دون تدخل السلطات العسكرية، وكانت لديه فرصة ممتازة ليعرف ماذا يجري في كل مكان، روت قاسمية.
رأى آرون آرونسون ضرورة استغلال المعلومات التي حصل عليها لخدمة المشروع الصهيوني وإقامة دولة إسرائيل، فقرر الاتصال ببريطانيا نتيجة لأعمال الاضطهاد التي مارسها الأتراك ضد اليهود، بخاصة في ما يتعلق بجمع الصهاينة للأسلحة، مما أقنعه بأنه لا مستقبل لليهود في فلسطين التركية، خصوصاً أنه كان يعتقد منذ نشوب الحرب أن إنجلترا ستسارع لاحتلال فلسطين على الأقل لضمان سلامة قناة السويس، لذا ربط آرونسون بين المصالح البريطانية واليهودية في الشرق، وتحقق هو ورفقاؤه أن بإمكانهم أن يخدموا القضية اليهودية بالعمل سراً لصالح بريطانيا.
وفي ربيع 1915 قرر آرونسون أن ينظم حركة كاملة ويتصل بمكتب المخابرات البريطانية في بورسعيد ليونارد وولي، وتم الاتصال عن طريق ممثلين عن اللاجئين اليهود الذين ذهبوا إلى مصر. وبحسب قاسمية، وافق رئيس المكتب على توقف السفن البريطانية عند شواطئ فلسطين حيث تتلقى المعلومات من مجموعة «عتليت» في مركز التجارب الزراعية.
واستعان آرونسون بعملاء له في المستعمرات اليهودية الجنوبية ممن يمكنهم التجول في منطقة بئر السبع وما جاورها. وبالفعل بدأ العمل لأخذ معلومات حول وضع الأتراك في إقليم سيناء، إلا أن الاتصال توقف بعد أسر «وولي».
وإزاء هذه التطورات، وجد آرونسون أنه من الضروري ترك البلاد والذهاب إلى إنجلترا، وهناك عرض خدماته معتمداً على معرفته بفلسطين وطبيعة السكان والوضع العسكري وأماكن وجود المياه، وهناك أكد لرئيس المخابرات العسكرية في وزارة الحربية أن بإمكانه تقديم خدمات قيمة للجيش البريطاني في عملياته ضد الأتراك.
وبحسب قاسمية، كان آرونسون يأمل أن يغادر إنجلترا ومعه التأكيد بالعطف البريطاني على الأماني الصهيونية وإقامة دولة إسرائيل، ولكن بريطانيا فضلت أن تتعامل في هذا الأمر مع الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان، وأن تعتمد على آرونسون فقط في مهمة المخابرات، ووضعته تحت تصرف القيادة في مصر، التي كانت تسعى للحصول على معلومات عن الأوضاع في شمال وشرق الجبهة المصرية. وترك آرونسون إنجلترا متجهاً نحو مصر في شتاء 1916 ليبدأ مهمته.
وارتكزت خطة العمل التي وضعها آرونسون من أجل إعادة الاتصال مع مجموعته في فلسطين (التي تولتها شقيقته سارة في غيابه)، على أن تذهب السفينة المسماة «مونجام»، التي سموها بلغة التجسس «مناحيم»، لتعبر الشاطئ عند «عتليت»، وتتلقى إشارة الأمان من مركز التجارب الزراعية، لتعود ليلاً وينزل القادمون بالقوارب، حيث يتم تبادل الأوراق والرسائل.
وبحسب قاسمية، جمعت حركة «نيلي» المعلومات تحت مرأى ومسمع الألمان والأتراك، وكانت سارة تجوب البلاد بمركبة تابعة لمركز التجارب، وتسجل كل شيء له قيمة للبريطانيين، وعملت على إيجاد أعوان من اليهود العاملين في الجيش التركي وفي المراكز الحساسة على الجبهة، واستخدمت النساء للحصول على المعلومات خصوصاً في دمشق مقر الأركان العامة التركية.
ومن تقارير سارة ومجموعتها عن الفرق التركية وتمركزها وخرائط المواقع العسكرية، كان آرون آرونسون يبلغ القيادة البريطانية بالتحركات والخطط التركية إلى جانب المعلومات الشخصية التي كان قد جمعها من تجاربه في البلاد.
ولم يكن آرونسون يتولى فقط نقل أخبار التحركات والخطط العسكرية، بل كان مخولاً بنقل الأموال إلى فلسطين بطرقه الخاصة، وكان أيضاً وراء حملة الدعاية المفتعلة التي تصور مظالم الأتراك، خصوصاً أخبار جلاء اليهود عن يافا، كما قام بتوجيه النداءات والمنشورات بالعبرية إلى شخصيات معينة في العالم الصهيوني بعد استشارة رئيس وزراء بريطانيا آرثر جيمس بلفور، الذي كانت تُنقل له أولاً بأول ترجمة هذه الوثائق عن العبرية.
وتذكر إيمان روبين في دراستها «المنظمات العسكرية والأمنية الصهيونية في فلسطين 1897-1920»، أن مجموعة آرون آرونسون بدأت العمل في نوفمبر 1915 بعد إيجاد الاتصال لأول مرة بين «عتليت» ومكتب المخابرات البريطانية بالقاهرة، فقد سافر أحد أعضاء المنظمة ويدعى أبشالوم فينبرغ فوراً إلى القدس ليجمع معلومات حول مصير الطيارين الفرنسيين اللذين وقعا في أسر الجيش التركي بعد حدوث خلل في محرك الطائرة، واضطرارهما للهبوط في بئر السبع، وتم القبض عليهما من قبل العرب وتسليمهما إلى الجيش التركي.
ومكث أبشالوم في القدس من 13 إلى 17 نوفمبر للبحث عن معلومات خاصة بأولئك الأسرى، وتعقب وضع الجيش التركي والنشاطات العسكرية هناك، ونزل في فندق يقيم فيه ضباط أتراك، وهناك التقى عديداً منهم وتجول معهم في المعسكرات والمستشفيات والمخازن العسكرية وجمع معلومات مهمة.
وبعد عدة أيام، ذهب آرونسون لجمع المعلومات العسكرية في الشمال، وبدأ جولته في حيفا في 22 نوفمبر، ووصل إلى طبريا ومستوطنة روش بينا، ثم إلى صيدا وبيروت، وعاد عن طريق عكا، وكان يكتب كل ملاحظاته في دفتر مذكراته بالشكل المقلوب المشفر حتى لا يمكن فهمه إذا وقع في يد الأتراك.
وتروي روبين، أن آرونسون كان عنيداً، فعندما اصطدم بمعوقات من حكام المناطق الأتراك، مثل حسن بيك حاكم يافا العسكري قدم استقالته، وقام حينها جمال باشا بتجديد تعيينه عام 1916.
ومع تعاظم خطر الجراد على فلسطين جعله مستشاره، واستطاع آرونسون بتلك الوظيفة الجديدة الدخول والخروج كيفما يشاء باسم جمال باشا، وعرف مقر القيادة العسكرية التركية جيداً، وتعرف على أعضائها، وراقب أفعالهم ونشاطاتهم، وتعرف على الأسعار في فلسطين، وكانت قيمة تلك المعلومات تكمن في سرعة إرسالها إلى مكتب خدمات التجسس البريطاني في مصر.
أما سارة أخت آرون آرونسون فكانت تتجول في فلسطين بمركبة تابعة لمركز التجارب، وتسجل كل شيء له قيمة بالبريطانيين، وفي سفرياتها كان مساعدها يوسف ليشنسكي في محطة التجارب في «عتليت»، وجمعت معلومات عن السكك الحديدية التي بناها الأتراك والإصابات والقتلى من الجنود، وكانت تكتب هذه المعلومات بطريقة علمها إياها آرون، والتي كانت تعتمد على عكس الحروف اللاتينية بنظام معين يصعب كشفه وقتها.
في 17 يونيو 1917 تولى الجنرال إدموند ألنبي قيادة القوات البريطانية في مصر، وطلب مقابلة آرونسون وكلفه بمعرفة الوضع بشكل عام في فلسطين والوضع النفسي والمعنوي للسكان هناك، ووضع الصهاينة وعددهم وعدد العرب وأهدافهم وخططهم، وعوامل القوة والضعف في الجيش التركي، ومعلومات عن جمال باشا وشخصيته، تذكر روبين.
وكانت سارة ترسل مع كل سفينة تصل إلى «عتليت» معلومات جديدة وأكثر أهمية، لدرجة أن قيادة الاستخبارات البريطانية في القاهرة استغربت من حجم المعلومات المتزايد ودقتها، التي عن طريقها تم تعديل الاستراتيجية، لدرجة أنه في كل مرة استعد فيها الأتراك لهجوم مفاجئ وجدوا الإنجليز مستعدين لصد هجماتهم. وفي مذكرات ألنبي قال، «إن نشاطات «نيلي» وفرت على الإنجليز خسائر بشرية تقدر بنحو 30 ألف جندي بريطاني».
ورغم نجاح «نيلي» في مهمتها فإن عدة إخفاقات خطيرة لاحقت نشاطها، أهمها عدم المحافظة على سرية المنظمة بشكل كافٍ، كما أن جزءاً كبيراً من أمور التنظيم كانت معروفة.
وبحسب روبين كان للتصرف العلني للمنظمة عدة أسباب، هي اعتبار أعضاء «نيلي» أن علاقتهم بالبريطانيين جزء من العمل القومي لحماية المشروع الصهيوني في فلسطين، وأن العمل هو إنجاز قومي على الجميع، وبالتحديد المنظمات العمالية، معرفته. كما كانت المجموعة ترسل رسائل من الصهاينة الموجودين في مصر إلى عائلاتهم في فلسطين من أجل التأثير على الاستيطان وتوسيع نشاطها.
وهذه الأمور لم تساعد المجموعة على الحفاظ على السرية في العمل، فبعد أن استقر الاتصال بين البريطانيين في مصر «نيلي» انتشر في فلسطين خبر المجموعة، وتم تحذير أعضائها لكنهم تجاهلوا الأمر، لأنهم كانوا في سباق مع الزمن، وكان من الصعب إيقاف نشاطاتهم، واصطدم أعضاء «نيلي» حينها بمعاملة عدائية من المؤسسات اليهودية في فلسطين التي خشيت رد فعل الأتراك.
وبعد اكتشاف أمر «نيلي»، أمرت سارة أعضاء المنظمة بالتفرق والاختباء، فيما بقيت هي في مستوطنة «زخروف يعكوف» حتى لا تثير الشكوك حولها. وفي الأول من أكتوبر 1917 حاصرت القوات التركية المستوطنة ومنعت دخول أي أحد إليها، وكان معظم أعضاء «نيلي» في ذلك اليوم في المستوطنة. وتم اعتقال معظم المطلوبين، ومنهم سارة ووالدها أفرايم وشقيقها تسفي، وركز الأتراك على اعتقال يوسف ليشنسكي الذي ظل أسابيع مطارداً، وهدد الأتراك كل من يقدم له خدمات.
وبحسب روبين، ضغط الأتراك على المقبوض عليهم للاعتراف بأعمالهم وبمكان ليشنسكي، ورفضت سارة الحديث تماماً وقالت إنها بريئة، واستمر التحقيق مع أعضاء المجموعة 30 يوماً، فيما حاول ليشنسكي الوصول إلى خطوط البريطانيين، لكن البدو قبضوا عليه جنوب يافا وسلموه للأتراك، وبعد أسابيع أُعدم هو وأحد أعضاء المجموعة نعمان بلكيند في دمشق.
أما سارة فحاولت الانتحار حتى لا تعترف على باقي أعضاء المنظمة، لكنها لم تمت على الفور ونقلوها إلى السجن، وماتت بعد ثلاثة أيام.
وفي أعقاب الكشف عن مجموعة «نيلي»، صعدت السلطات التركية الوضع ضد الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وشمل ذلك التصعيد أعضاء «نيلي» وقيادة المستوطنات وأعضاء منظمة هاشومير «الحارس» الصهيونية المسلحة. وتذكر روبين، أنه عندما حققت السلطات التركية مع أعضاء «نيلي»، علمت السلطات أنهم كانوا يُسكرون خفر السواحل بالنبيذ كي لا يلاحظوا وصول السفينة البريطانية عن طريق البحر.
أما آرون آرونسون رئيس وحدة «نيلي» فقد عمل من أجل الصهيونية في لندن، وفي 15 مايو 1919 مات غرقاً إثر سقوط الطائرة التي كانت تقله في قناة المانش في ظروف غامضة.
ويذكر صبري جريس في الجزء الأول من كتابه «تاريخ الصهيونية 1862-1948»، أن «نيلي» كشفت عن خلاف عميق بين المستوطنين في فلسطين حول الخط السياسي الذي ينبغي عليهم اتباعه خلال الحرب العالمية الأولى، وبمعنى آخر المراهنة على انتصار الحلفاء أو تركيا، ومن ثَم وضع مسألة الوجود اليهودي في فلسطين في الميزان.
واحتدم الخلاف بشكل حاد بين المنظمة الصهيونية المسلحة «هاشومير» التي كانت تنادي بالتعاون مع الأتراك من جهة، و«نيلي» التي وقفت إلى جانب البريطانيين من جهة أخرى. وبحسب جريس حاول أعضاء «هاشومير» قتل يوسف ليشنسكي إثر انفضاح أمر الشبكة، خشية أن يقع في أيدي الأتراك الذين اعتقلوه وأعدموه في ما بعد فينكلوا بالمستوطنين بسببه. وأبدى معظم زعماء المستوطنين في فلسطين تحفظهم على نشاط «نيلي»، وعارضوا نشاطاتها، خوفاً من النتائج الوخيمة التي قد تترتب على ذلك.
غير أن هذا الخلاف كان له ناحية أخرى أيضاً. يشرح جريس أن جماعة «نيلي» كانت من أبناء المستوطنات و«هاشومير» من أبناء الهجرة الثانية، وجماعة الهجرة الثانية تعتبر أبناء المستوطنات يهوداً مستغلين أصحاب أملاك يستخدمون العرب وغرباء عن الجماهير اليهودية في المهجر، أما أبناء المستوطنات فقد اعتبروا جماعة الهجرة الثانية لاجئين من التجنيد في روسيا، ودخلوا البلد حديثاً ويريدون تلقين القدماء أصحاب الخبرة دروساً.
واستمرت أصداء هذا الخلاف نحو 60 سنة، حيث كان اسم «نيلي» يُرفق باللعنة عند ذكره من قبل المستوطنين الصهيونيين في فلسطين أو زعمائهم. ولم يعد لهذه المنظمة «اعتبارها» بين اليهود إلا في أواخر سنة 1967، عندما قلدت إسرائيل أخت سارة آرونسون إحدى زعيمات «نيلي» التي انتحرت في السجن بعد إلقاء القبض عليها وساماً، بالنيابة عن أختها.